أهوار العراق التاريخية..

أهوار العراق التاريخية... القصب والبردي ينمو من جديد واللقالق والأسماك تعود إلى مياهها.. والسكان مترددون

أبو سوباط (جنوب العراق): جيمس غلانز*
قال حميد هاشم أثناء سيره بخطوات متأنية واضعا فردتي حذائه الصندل على الطابوق المتداعي من بيت كانت تسكنه عائلة في منطقة الأهوار «هذه هي غرفة الضيوف». أدى السد الذي بنته حكومة صدام حسين قبل تسعة أعوام إلى تجفيف الأهوار التي تم تدميرها بطريقة منهجية متعمدة أثناء الحكم السابق وتعد نظاما مائيا ـ بيئيا لا مثيل له في العالم ينتشر على مسافة 7 آلاف ميل مربع في جنوب العراق. بعد إنشاء السد أعطي سكان الأهوار أمرا بمغادرة بيوتهم ومنطقتهم خلال 24 ساعة وتحذيرا بعدم العودة ثانية أبدا، حسبما قال هاشم. وظلت أطلال البيوت وحدها قائمة على تلال وصحارى قاحلة تماما بعد تجفيف الأهوار.
لكن بعد سقوط نظام صدام حسين ذهب القرويون إلى السد وفتحوا ثغرات فيه بمعاولهم وأياديهم العارية. ومنذ ذلك الوقت وقع شيء إعجازي: نما القصب والبردي بشكل مدهش مرة أخرى، كذلك عادت فصائل السمك والحلزون والروبيان وبدأت اللقالق وطيور مالك الحزين تحط على بقايا الجدران المهدمة تراقب بهدوء المنطقة وكأنها لم تغادر يوما هذه البقعة الساحرة من العالم.
يمكن القول إن بعض مناطق الأهوار بدأت الحياة تعود إليها. وحاليا مع التمويل الذي يقدَّم من وكالات ومؤسسات أميركية وبريطانية وكندية وإيطالية وعراقية تسعى فرق من العلماء لإعادة الحياة إلى ما كانت عليه في هذه المنطقة. ويشمل العمل الجاري حاليا أخذ عينات من التربة والماء ووضع تصاميم كومبيوترية لتدفق الماء وتدريب العلماء العراقيين وإعادة تخزين بعض مناطق الأهوار بالسمك الأصلي الذي كان يعيش في مياهها، كذلك طرح برنامج لخدمات بيطرية وصحية لمنطقة الأهوار.
وللقيام بعملهم كان على هؤلاء العلماء أن يتحركوا عبر حدود عشائرية وتمرد مستمر وعبر مشاعر سياسية ملتهبة.
قال الدكتور عزام علوش المهندس المدني الأميركي ذو الأصل العراقي والعامل ضمن أحد هذه الفرق، إن العشائرية التي تولدت في المنطقة بسبب عزلتها الطويلة هي عامل يجب عدم التقليل من أهميته «كنت معتادا على تسمية الأهوار بغابات شيروود». ويعمل علوش مديرا لمنظمات البحث في واشنطن ضمن برنامج «عدن ثانية وعدن الجديدة». وأضاف «كانت الأهوار ملاذا لكل الذين لا يريدون أن يكونوا تحت سيطرة الحكومة».
كان الهدف الحقيقي وراء برنامج صدام حسين لتجفيف الأهوار هو قطع الطريق أمام أولئك الهاربين من جيشه ورجال العصابات من مناطق الجنوب والذين قاتلوا نظامه قبل فترة طويلة من وصول القوات الأميركية.
وتحت حماية الشيوخ المحليين وزعماء القرى زار كاتب هذه السطور خلال الأسابيع الأخيرة العلماء العراقيين وعددا من المناطق التي تم إغراقها حديثا بالماء حيث سافر بالدرجة الأولى على امتداد طريق يبلغ طوله 75 ميلا، ويمتد من البصرة وحتى بلدة القرنة. ومثلما تقول الأسطورة فإن هذه المنطقة هي مركز جنة عدن، وهي تقع إلى غرب الجبايش البلدة الشهيرة في الأهوار على الطريق الممتد شمالا إلى مدينة الناصرية.
شملت الرحلة أمكنة عاد إليها سكان الأهوار من دون أي إشراف رسمي حيث قاموا بنصب أكواخ من القصب بينما تبدو بعض الأمكنة المهجورة الأخرى مخيفة وقاحلة. فهناك ما زالت مساحات صحراوية واسعة لم يصلها الماء، بينما هناك مساحات أخرى الآن مغطاة بالقصب والماء وتتخللها زوارق خشبية.
قال الدكتور مالك علي المدير العام لمركز العلوم البحرية في البصرة حيث تجري بعض الأبحاث الخاصة بالأهوار «بالتأكيد تستطيع الأهوار أن تعود من جديد مثلما كانت من قبل». وحينما سئل كم يمكن استرجاعه من مناطق الأهوار قال الدكتور علي «80% منها وهذا رقم مقبول»، لكن آخرين ذكروا نسبة أقل لا تتجاوز الثلث. وأضاف الدكتور علي «بالتأكيد يتطلب تحقيق ذلك الكثير من التدخل السياسي».
لكن هناك تحديات أخرى تواجه سكان الأهوار عدا المشكلة التقنية التي خلفها فعل صدام حسين، إذ أن هناك عشرات السدود التي بنيت في تركيا وسورية والعراق وهذا ما قلل من كمية المياه التي كانت تجري عادة في نهري دجلة والفرات اللذين يلتقيان في منطقة الأهوار. كذلك فإن وجود حقول نفط غنية تحت بعض مناطق الأهوار يعني أنه لن تكون هناك قوة في العالم قادرة على هدم أبراج النفط وإعادة المياه محلها.
كذلك فإن أهالي منطقة الأهوار الذين يقدر عددهم ما بين 350 و500 ألف نسمة حسب تقديرات الأمم المتحدة، قد أجبروا على العيش لفترة طويلة في مراكز حضرية في العراق وإيران والسعودية وفي أماكن أخرى وهم الآن يعيشون الحيرة بين العودة إلى قراهم المعزولة التي تفتقد للكهرباء والطرق المبلطة وماء الحنفيات والمدارس الحديثة وبين البقاء أينما هم الآن. فمع وجود عدد أقل بكثير من الحيوانات البرية عما كان عليه في الماضي سيكون الاعتماد على صيد الحيوانات والسمك للعيش أكثر صعوبة.
بل حتى أولئك الذين فرحوا كثيرا بعودة الحياة إلى الأهوار لم يستقبلوا فكرة العودة إلى حياتهم السابقة بنفس الحماس. فهاشم على سبيل المثال ساخط على أبويه الراغبين في عودة عائلته الكبيرة البالغ عددها 14 فردا إلى سكنهم السابق في الأهوار من دون أن تكون قد أقيمت فيها الخدمات الأساسية.
وتمتد الحياة في منطقة الأهوار إلى ما يزيد عن أكثر من 5 آلاف عام حيث نشأت الحضارات الأولى مثل الحضارة السومرية. وقال المهندس الدكتور علوش إنه طور مشروعا تجريبيا لإظهار أن الخدمات الحديثة والأهوار ليستا متعارضتين مع بعضهما البعض، لكنه اعترف بأن ما يذكره هو مجرد نظرية حتى يتم تجريبها بحجم كبير لتحويل الساعة البيئية وهذا ما سيوضح ما ليس معروفا بالنسبة للعلماء.
من جانبه قال الدكتور علي فرحان من شركة تطوير البدائل ان «الاستنتاج الأساسي هو أن منطقة الأهوار في طريقها للعودة إلى ما كانت عليه. إنها الآن في طور النقاهة». وفرحان عراقي يقوم بإدارة مشروع ترميمي والإشراف عليه، ويمول هذا المشروع الوكالة الدولية للتنمية.
* خدمة «نيويورك تايمز»